فصل: من الآية 229: 230 من سورة البقرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن، كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ‏}‏؛ لأن الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذالِكَ‏}‏، راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بــ ‏{‏ثَلَـاثَةَ قُرُوء‏}‏‏.‏

واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة، في قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَـاحاً‏}‏، ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا، ولكنه صرح في مواضع أُخر أن زوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها؛ لتخالعه أو نحو ذلك، أن رجعتها حرام عليه، كما هو مدلول النهي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا‏}‏‏.‏

فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعًا، كما دلّ عليه مفهوم الشرط المصرّح به في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا‏}‏، وصحة رجعته حينئذ باعتبار ظاهر الأمر، فلو صرح للحاكم بأنه ارتجعها بقصد الضرر، لأبطل رجعته كما ذكرنا، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

{‏وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ‏}‏، لم يبيّن هنا ما هذه الدرجة التي للرجال على النساء، ولكنه أشار لها في موضع آخر وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىا بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ‏}‏، فأشار إلى أن الرجل أفضل من المرأة؛ وذلك لأن الذكورة شرف وكمال والأنوثة نقص خلقي طبيعي، والخلق كأنه مجمع على ذلك؛ لأن الأنثى يجعل لها جميع الناس أنواع الزينة والحلي، وذلك إنما هو لجبر النقص الخلقي الطبيعي الذي هو الأنوثة، بخلاف الذكر فجمال ذكورته يكفيه عن الحلي ونحوه‏.‏

وقد أشار تعالى إلى نقص المرأة وضعفها الخلقيين الطبيعيين، بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ‏}‏؛ لأن نشأتها في الحلية دليل على نقصها، المراد جبره،

والتغطية عليه بالحلي، كما قال الشاعر‏:‏ وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا

وأما إذا كان الجمال موفرًا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا

ولأن عدم إبانتها في الخصام إذا ظلمت دليل على الضعف الخلقي، كما قال الشاعر‏:‏ بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب

فلم يعتذر عذر البرىء ولم تزل به سكتة حتى يقال مريب

ولا عبرة بنوادر النساء؛ لأن النادر لا حكم له‏.‏

وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ‏}‏، إلى أن الكامل في وصفه وقوته وخلقته يناسب حاله، أن يكون قائمًا على الضعيف الناقص خلقة‏.‏

ولهذه الحكمة المشار إليها جعل ميراثه مضاعفًا على ميراثها؛ لأن من يقوم على غيره مترقب للنقص، ومن يقوم عليه غيره مترقب للزيادة، وإيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة ظاهر الحكمة‏.‏

كما أنه أشار إلى حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة بقوله‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏؛ لأن من عرف أن حقله غير مناسب للزراعة لا ينبغي أن يرغم على الازدراع في حقل لا يناسب الزراعة‏.‏ ويوضح هذا المعنى أن آلة الازدراع بيد الرجل، فلو أكره على البقاء مع من لا حاجة له فيها حتى ترضى بذلك، فإنها إن أرادت أن تجامعه لا يقوم ذكره، ولا ينتشر إليها، فلم تقدر على تحصيل النسل منه، الذي هو أعظم الغرض من النكاح بخلاف الرجل، فإنه يولدها وهي كارهة كما هو ضروري‏.‏ قوله تعالى‏:‏

‏{‏الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىا تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏

، الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ ظاهر هذه الآية الكريمة أن الطلاق كله منحصر في المرتين، ولكنه تعالى بين أن المنحصر في المرتين هو الطلاق الذي تملك بعده الرجعة لا مطلقًا، وذلك بذكره الطلقة الثالثة التي لا تحل بعدها المراجعة إلا بعد زوج‏.‏ وهي المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ‏}‏، وعلى هذا القول فقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـانٍ‏}‏، يعني به عدم الرجعة‏.‏

وقال بعض العلماء الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـانٍ‏}‏، وروي هذا مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم‏.‏

تنبيــه

ذكر بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ‏}‏، يؤخذ منها وقوع الطلاق الثلاث في لفظ واحد وأشار البخاري بقوله‏:‏ ‏"‏ باب من جوّز الطلاق الثلاث؛ لقول اللَّه تعالى ‏{‏الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـانٍ‏}‏‏.‏

والظاهر أن وجه الدلالة المراد عند البخاري، هو ما قاله الكرماني من أنه تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ‏}‏، علمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة، جاز جمع الثلاث، ورد ابن حجر هذا بأنه قياس مع وجود الفارق وجعل الآية دليلاً لنقيض ذلك‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الظاهر أن الاستدلال بالآية غير ناهض؛ لأنه ليس المراد حصر الطلاق كله في المرتين حتى يلزم الجمع بين اثنتين في إحدى التطليقتين كما ذكر، بل المراد بالطلاق المحصور هو خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرجعة كما ذكرنا، وكما فسر به الآية جماهير علماء التفسير‏.‏ وقال بعض العلماء وجه الدليل في الآية أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـانٍ‏}‏، عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة واحدة، ولا يخفى عدم ظهوره‏.‏ ولكن كون الآية لا دليل فيها على وقوع الثلاث بلفظ واحد، لا ينافي أن تقوم على ذلك أدلة وسنذكر أدلة ذلك، وأدلة من خالف فيه، والراجح عندنا في ذلك إن شاء اللَّه تعالى، مع إيضاح خلاصة البحث كله في آخر الكلام إيضاحًا تامًا‏.‏

فنقول وباللَّه نستعين‏:‏ اعلم أن من أدلة القائلين بلزوم الثلاث مجتمعة، حديث سهل بن سعد الساعدي، الثابت في الصحيح في قصة لعان عويمر العجلاني وزوجه؛ فإن فيه‏:‏ ‏"‏ فلما فرغا قال عويمر‏:‏ كذبت عليها يا رسول اللَّه، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال ابن شهاب‏:‏ فكانت سنة المتلاعنين ‏"‏‏.‏

أخرج البخاري هذا الحديث تحت الترجمة المتقدمة عنه ووجه الدليل منه‏:‏ أنه أوقع الثلاث في كلمة واحدة، ولم ينكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورد المخالف الاستدلال بهذا الحديث؛ بأن المفارقة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تطليقه الثلاث محلاً، ورد هذا الاعتراض؛ بأن الاحتجاج بالحديث من حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعًا لأنكره، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان‏.‏ وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب، ولا سنة صريحة، ولا إجماع‏.‏ والعلماء مختلفون في ذلك‏.‏

فذهب مالك وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان، وإنما تتحقق بلعان الزوجين معًا، وهو رواية عن أحمد‏.‏ وذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الفرقة بنفس اللعان، وتقع عند فراغ الزوج من أيمانه قبل لعان المرأة، وهو قول سحنون من أصحاب مالك‏.‏

وذهب الثوري وأبو حنيفة وأتباعهما إلى أنها لا تقع حتى يوقعها الحاكم؛ واحتجّوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان، فقد أخرج البخاري في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرّق بين رجل وامرأة قذفها، وأحلفهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏.‏ وأخرج أيضًا في ‏"‏ صحيحه ‏"‏ عن ابن عمر من وجه آخر أنه قال‏:‏ ‏"‏ لاعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار، وفرق بينهما ‏"‏‏.‏ ورواه باقي الجماعة عن ابن عمر، وبه تعلم أن قول يحيى بن معين‏:‏ إن الرواية بلفظ ‏"‏فرق ‏"‏ بين المتلاعنين خطأ، يعني في خصوص حديث سهل بن سعد المتقدم، لا مطلقًا، بدليل ثبوتها في الصحيح من حديث ابن عمر، كما ترى‏.‏ قال ابن عبد البرّ‏:‏ إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلا فمردود‏.‏ وقال ابن حجر في ‏"‏ فتح الباري ‏"‏، ما نصه‏:‏ ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ فرّق بين المتلاعنين، إنما المراد به في حديث سهل بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ، وقال بعده لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد ثم أخرج من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر‏:‏ ‏"‏ فرّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان ‏"‏ اهـ محل الغرض منه بلفظ، وقد قدمنا في حديث سهل‏:‏ ‏"‏ فكانت سنة المتلاعنين ‏"‏‏.‏

واختلف في هذا اللفظ هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلاً وبه قال جماعة من العلماء ‏؟‏ أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل ‏؟‏ ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد اللَّه الفهري عن ابن شهاب عن سهل‏.‏ قال‏:‏ فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنة‏.‏

قال سهل‏:‏ حضرت هذا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين، أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا‏.‏

قال الشوكاني في ‏"‏نيل الأوطار‏"‏‏:‏ ورجاله رجال الصحيح‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور واقع موقعه؛ لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري ـ رحمه اللَّه ـ يفهم أن هذا اللفظ الثابت في ‏"‏سنن أبي داود‏"‏، مطابق لترجمة البخاري، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها؛ لأنها ليست على شرطه، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه الرواية الثابتة‏:‏ ‏"‏بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق الثلاث دفعة‏"‏ يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له؛ بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى‏.‏

وذهب عثمان البتي وأبو الشعثاء جابر بن زيد البصري، أحد أصحاب ابن عباس من فقهاء التابعين إلى أن الفرقة لا تقع حتى يوقعها الزوج، وذهب أبو عبيد إلى أنها تقع بنفس القذف وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرًا قطعيًا، حتى ترد به دلالة تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم عويمر العجلاني، على إيقاع الثلاث دفعة، الثابت في الصحيح، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك، فإن قيل قد وقع في حديث لأبي داود عن ابن عباس وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى، من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها‏.‏

فالجواب أن هذا التعليل لعدم إيجاب النفقة والسكنى؛ للملاعنة بعدم طلاق أو وفاة يحتمل كونه من ابن عباس، وليس مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا هو الظاهر أن ابن عباس ذكر العلة لما قضى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من عدم النفقة والسكنى، وأراه اجتهاده أن علة ذلك عدم الطلاق والوفاة‏.‏

والظاهر أن العلة الصحيحة لعدم النفقة والسكنى هي البينونة بمعناها الذي هو أعم من وقوعها بالطلاق أو بالفسخ، بدليل أن البائن بالطلاق لا تجب لها النفقة والسكنى على أصح الأقوال دليلاً‏.‏

فعلم أن عدم النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق‏.‏

وأوضح دليل في ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث فاطمة بنت قيس رضي اللَّه عنها‏:‏ ‏"‏ أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى ‏"‏ أخرجه مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، والإمام أحمد وأصحاب السنن، وهو نص صريح صحيح في أن البائن بالطلاق لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا الحديث أصح من حديث ابن عباس المتقدم‏.‏

وصرح الأئمة بأنه لم يثبت من السنة ما يخالف حديث فاطمة هذا، وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه قال‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لها‏:‏ ‏"‏ السكنى والنفقة ‏"‏‏.‏ فقال قال الإمام أحمد‏:‏ لا يصح ذلك عن عمر‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ السنة بيد فاطمة قطعًا، وأيضًا تلك الرواية عن عمر من طريق إبراهيم النخعي ومولده بعد موت عمر بسنتين‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ ونحن نشهد باللَّه شهادة نسأل عنها إذا لقيناه، أنها كذب على عمر وكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا حققت أن السنة معها وأنها صاحبة القصة، فاعلم أنها لما سمعت قول عمر لا نترك كتاب اللَّه وسنة نبيّنا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، قالت‏:‏ بيني وبينكم كتاب اللَّه‏.‏ قال اللَّه‏:‏ ‏{‏فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏، حتى قال‏:‏ ‏{‏لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً‏}‏‏.‏ فأي أمر يحدث بعد الثلاث، رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، ومسلم بمعناه‏.‏ فتحصل أن السنة بيدها، وكتاب اللَّه معها‏.‏

وهذا المذهب بحسب الدليل هو أوضح المذاهب وأصوبها‏.‏ وللعلماء في نفقة البائن وسكناها أقوال غير هذا‏.‏ فمنهم من أوجبهما معًا، ومنهم من أوجب السكنى دون النفقة، ومنهم من عكس‏.‏

فالحاصل أن حديث فاطمة هذا يرد تعليل ابن عباس المذكور، وأنه أصح من حديثه، وفيه التصريح بأن سقوط النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق، بل يكون مع الطلاق البائن‏.‏ وأيضًا فالتصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث دفعة في الرواية المذكورة أولى بالاعتبار من كلام ابن عباس المذكور؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ‏.‏ وهذا الصحابي حفظ إنفاذ الثلاث، والمثبت مقدم على النافي‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان؛ لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية‏.‏ فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان‏.‏

ويدلّ لهذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال‏:‏ ‏"‏أيُلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم ‏؟‏ ‏"‏ كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد فالجواب من أربعة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ الكلام في حديث محمود بن لبيد، فإنه تكلم من جهتين‏:‏

الأولى‏:‏ أنه مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن كانت ولادته في عهده صلى الله عليه وسلم، وذكره في الصحابة من أجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده، وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شىء صرّح فيه بالسماع‏.‏

الثانية‏:‏ أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير‏.‏ يعني ابن الأشج عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه، وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما‏.‏

وقال ابن المديني‏:‏ سمع من أبيه قليلاً‏.‏ قال ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏‏:‏ روايته عن أبيه وجادة من كتابه، قال أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني‏:‏ سمع من أبيه قليلاً‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ أما الإعلال الأول بأنه مرسل، فهو مردود بأنه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل‏.‏ ومحمود بن لبيد المذكور جلّ روايته عن الصحابة‏.‏ كما قاله ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏ وغيره‏.‏

والإعلال الثاني بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه أن مسلمًا أخرج في ‏"‏ صحيحه ‏"‏ عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم؛ إلا بموجب صريح يقتضي الرد، فالحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث، ولا أنه لم ينفذها، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها، والمبين مقدم على المجمل، كما تقرر في الأصول بل بعض العلماء احتجّ لإيقاع الثلاث دفعة، بحديث محمود هذا‏.‏

ووجه استدلاله به أنه طلق ثلاثًا يظن لزومها، فلو كانت غير لازمة لبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها غير لازمة؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن إمام المحدّثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه اللَّه أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله‏:‏ ‏"‏ باب من جوز الطلاق الثلاث ‏"‏ وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره، في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ هو ما سيأتي من الأحاديث الدالّة على وقوع الثلاث دفعة، كحديث ابن عمر، وحديث الحسن بن علي، وإن كان الكل لا يخلو من كلام‏.‏ وممن قال بأن اللعان طلاق لا فسخ‏:‏ أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وحماد، وصح عن سعيد بن المسيب، كما نقله الحافظ ابن حجر في ‏"‏ فتح الباري ‏"‏، وعن الضحاك والشعبي‏:‏ إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته‏.‏

وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمر العجلاني، على إيقاع الثلاث دفعة، بأن الفرقة بنفس اللعان لا يخلو من نظر، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته صلى الله عليه وسلم لا دليل فيه، بل نقول لو كانت لا تقع دفعة لبيّن أنها لا تقع دفعة، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان، كما تقدم‏.‏

ومن أدلّتهم حديث عائشة الثابت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته،

فإن فيه‏:‏ ‏"‏ فقالت‏:‏ يا رسول اللَّه ‏!‏ إن رفاعة طلقني فبتّ طلاقي ‏"‏ الحديث‏.‏ وقد أخرجه البخاري تحت الترجمة المتقدمة، فإن قولها فبتّ طلاقي ظاهر في أنه قال لها‏:‏ أنت طالق البتّة‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر؛ لأن مرادها بقولها‏:‏ فبتّ طلاقي أي‏:‏ بحصول الطلقة الثالثة‏.‏

ويبيّنه أن البخاري ذكر في كتاب الأدب من وجه آخر أنها قالت‏:‏ طلقني آخر ثلاث تطليقات، وهذه الرواية تبين المراد من قولها فبتّ طلاقي، وأنه لم يكن دفعة واحدة، ومن أدلتهم حديث عائشة الثابت في الصحيح‏.‏ وقد أخرجه البخاري تحت الترجمة المذكورة أيضًا‏:‏‏"‏ أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجت فطلق، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول ‏"‏ فإن قوله ثلاثًا ظاهر في كونها مجموعة، واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة، وقد قدّمنا قريبًا أن بعض الروايات الصحيحة دلّ على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة، وردّ هذا الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة، فلا مانع من التعدد، وكون الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكره الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة، فإنه قال فيها ما نصّه‏:‏ وهذا الحديث إن كان محفوظًا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى‏.‏ وأن كلاًّ من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق، فتزوج كلاًّ منهما عبد الرحمان بن الزبير فلطقها قبل أن يمسها، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص‏.‏ وبهذا يتبيّن خطأ من وحد بينهما ظنًّا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب‏.‏ ا هـ محل الحاجة منه بلفظه‏.‏ ومن أدلّتهم ما أخرجه النسائي عن محمود بن لبيد قال‏:‏ ‏"‏ أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام مغضبًا، فقال‏:‏ ‏"‏أيلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم ‏؟‏ ‏"‏ وقد قدّمنا أن وجه الاستدلال منه‏:‏ أن المطلق يظن الثلاث المجموعة واقعة، فلو كانت لا تقع لبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها لا تقع؛ لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه‏.‏